موضوع: عَلمانيةُ ما قبل الأسلمة! الجمعة 07 سبتمبر 2012, 12:58 pm
بسم الله الرحمن الرحيم
يُعدُّ كتاب (الإسلام وأصول الحكم) أولَ دراسة شرعية تؤسِّس للفكرة العَلمانية داخل الوسط الإسلامي، وقد نشره الشيخ القاضي علي عبد الرازق عام 1925م بعد عامٍ من القضاء رسمياً على مسمى الخلافة العثمانية، أحدث به معركة ثقافية وسياسية ضخمة.
تقوم فكرة الكتاب المركزية على تفسير (الدين الإسلامي) بما يتفق مع التصور الغربي للدين، فرسالة النبي صلى الله عليه وسلم ما هي إلا رسالة روحية ليس فيها إلا البلاغ لوجود (آيات متظافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان)[1].
فهي رسالة لا تتضمن سلطة حكم، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم: (رسولاً لدعوة دينية خالصة للدين لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة)[2]، وإنما أحدث ذلك المسلمون من بعده، وكانت الحكومة التي أقامها الصحابة من بعده حكومة دنيوية ليست من أحكام الإسلام[3].
شذوذ هذا الرأي ونكارته أحدثا ردة فعلٍ صارمة شديدة ضده، فأصدرت هيئة كبار العلماء في مصر بتوقيع (24) عالماً، بياناً ذكروا فيه أخطاء الكتاب البارزة، وحصروها في 7 مخالفات ظاهرة[4]، ثم توالت الردود العلمية، فكتب الشيخ محمد الخضر حسين: (نقض الإسلام وأصول الحكم)، وكتب الطاهر بن عاشور: (نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم)، وألَّف محمد بخيت المطيعي رسالته: (حقيقة الإسلام وأصول الحكم)، وأرَّخ الدكتور محمد ضياء الدين الريس للتفاصيل السياسية المتعلقة بصدور الكتاب في رسالته: (الإسلام والخلافة)؛ فكانت سبباً في سقوط الكتاب سقوطاً مريعاً في جانبه العلمي، وكشفت عن أخطائه وسوء تصوّراته، حتى أصبحت قيمة الكتاب في حدثه التاريخي وليس في القيمة العلمية الضعيفة والمتناقضة في تقريراته.
لم يتوقف الأمر عند هذا، بل أصبح مبحث الإسلام (دين ودولة) من المباحث المركزية في الفكر الإسلامي المعاصر، فتوالت الدراسات والبحوث المؤصلة لهذا المفهوم، والمجيبة عن جميع الإشكالات والشبهات التي يثيرها أصحاب الاتجاه العَلماني، وحدَّدت الدوافع لتبني مثل هذا التفسير العَلماني للإسلام، وشارك فيها أهل العلم من جميع التخصصات المختلفة.
عامة الدراسات المعاصرة التي تبحث الجانب السياسي في الإسلام في أي مجالٍ من مجالاته، كالدراسات عن النظام السياسي أو القانون الدستوري أو نظام الدولة أو الخلافة أو البيعة؛ لا بد أن تعرّج على رأي عبد الرازق بالنقض تفصيلاً، وتزيده نقضاً بحديثها المسهب عن جميع القضايا السياسية من منظور شرعي.
كان لهذه الجهود العلمية الحثيثة أثر ظاهر في كسر العمود الفقري للعَلمانية، وفي قطع الطريق عن أي أمل لمحاولة إنعاش هذه الفكرة، حتى أصبح كثير من العَلمانيين يتحاشى الانتساب لها، وصار اسم علي عبد الرازق مشوّهاً ومثيراً للنقد والامتعاض لما أحدثه من هذه السنة السيئة، بل إن بعض المفكرين الذين تأثروا بمدِّ العَلمانية سرعان ما عادوا وأعلنوا توبتهم كما فعل الشيخ خالد محمد خالد حين أسَّس للعَلمانية في رسالته الأولى (من هنا نبدأ) التي نشرها عام 1950م، ثم عاد فنقضها في رسالته الأخيرة (الدولة في الإسلام) والتي قرر فيها أنه كان في تصوره لمفهوم الدين متأثراً بطبيعة الأنظمة المستبدة في أوروبا، وخاضعاً لتأثير ما كان يُنسب إلى بعض الإسلاميين من أخطاء، فأدى به ذلك لاعتناق العَلمانية.. يعترف بعدها أنه أخطأ حين جعل أخطاء بعض الإسلاميين مصدراً للتفكير وليس موضوعاً للتفكير، فدفعه هذا الشحن النفسي إلى الابتعاد عن الحقيقة وتبني مقدمات غير مستقلة فكرياً[5].
كان لهذه الحملات العلمية والشعبية أثر عميق يعبِّر عنه أحد المؤلفين العَلمانيين بقوله: (كانت لهذه الحملة على العَلمانية عموماً، وعلى طه حسين وعلي عبد الرازق بوجه الخصوص، نتائج كثيرة، كانت اثنتان منها على قدر كبير من الأهمية، وهما: ضمور الإصلاحية الإسلامية وجمودها على بعض لحظات بدايتها والتآكل الداخلي في مواقف بعض العَلمانيين الليبراليين المصريين)[6].
حتى أصبح اسم (علي عبد الرازق) مشوّهاً إلى حدٍ امتعض منه هذا المؤلف قائلاً: (بل اضطر حتى بعض القائلين بمَدَنية السلطة إلى ممارسة طقس رفض كتاب عبد الرازق)[7].
هذا التشويه للعَلمانية دفع كثيراً من المتأثرين بالفكر العَلماني للبحث عن جذور إسلامية يمكن استنبات المضامين العَلمانية فيها، بحيث تقدَّم الفكرة العَلمانية كفكرة إسلامية تراثية لتخطي مصادمة الجمهور، وهي دعوة رائجة لدى عدد من المفكرين المعاصرين المستشعرين لحالة النفور الشعبي من العَلمانية، وهو ما تذمر منه بعض العَلمانيين واعتبروه انهزاماً أمام الفكر الإسلامي وتخلياً عن أساس الفكرة العَلمانية وعلامة تراجع وانتكاس لها: (الأخطر من كل هذا والأكثر تدليلاً على تراجع الفكر العَلماني عندنا: ما نشهده من محـاولات حثيثة من قـبل المفكرين العَلمانيين لدعم موقفهم عن طريق اللجوء إلى القرآن والسنة، غير مدركين أنهم يقدِّمون بهذا أكبر التنازلات للحركات المناوئة للعَلمانية)[8].
يدفعنا هذا للتساؤل عن حظوظ العَلمانيين في إمكانية إعادة بناء الرؤية العَلمانية التي قدمها علي عبد الرازق:
فهل يمكن لهذه الفكرة أن يعود وهجها وحضورها الشعبي؟
وهل يمكن حدوث معارك ثقافية معاصرة تجدد الدماء في هذه القضية؟
ربما يكون لدينا عشرات الإجابات لهذا السؤال نظراً لاختلاف الزاوية التي ينظر منها كل شخص، وأرى أن فكرة عبد الرازق تحتوي على جانبين:
الجانب الأول : تفسير الإسلام تفسيراً عَلمانياً بحيث يكون مجرد رسالة روحية ليس لها أي علاقة بالجانب الدنيوي، إنما تكون علاقة المسلم بالدين محصورةً في الشأن الخاص، وأما الشؤون الدنيوية كافة فهي خارجة عن المجال الديني.
هذه الرؤية ليس لها أي حضور يُذكر في الوسط المسلم، وحين تكدُّ بصرك في البحث عن آثار أهلها لن تجدهم إلا في أوساط الحداثيين وبعض المفكرين في مؤلفاتهم وصالوناتهم ذات التأثير المحدود، ربما تنتشر بعض آرائهم عند الناس شتماً وعيباً ليس إلا.
الجانب الثاني : علمنة النظام السياسي في الإسلام بإبعاد الأحكام الدينية عن السياسة، فيكون الجانب السياسي جانباً دنيوياً مصلحياً لا يستند فيه إلى أحكام شرعية ملزمة.
هذا الجانب لا يلغي أن الدين في الإسلام يشمل جوانب حياتية كثيرة، لكن يرفض أن يكون للدين حضور في النظام السياسي الملزم.
هل يمكن إعادة ترميم هذه الرؤية من جديد؟
ثم سؤال آخر لا بد من الإجابة عنه لأنه مدخل مهم للإجابة عن هذا السؤال، وهو:
لماذا يرفض العَلمانيون حضور الدين في الجانب السياسي؟
فالدافع لعَلمانية الحكم هو ما يثيره حضور الدين في النظام من إشكالات، فليس لديهم إشكال مع الدين في الجانب الخاص، ولا إشكال مع الدين في قضايا الدنيا الأخرى، إنما وجود الدين في النظام له عدد من السلبيات هي التي دفعتهم لتبني هذه العلمنة.
فتأثير الدين على النظام السياسي والقوانين غير مقبول في العقلية العَلمانية لمرتكزين أساسين:
الأول : عدم إيمانهم أساساً بوجود رؤية دينية قطعية صحيحة، وإنما هي كلها اجتهادات نسبية، ووجهات نظر خاصة، وفرض الدين يعني فرض رؤية خاصة، ما يعني استبداداً باسم الدين، وعدواناً على الآخرين بسبب فهم ضيق للدين، ولذا فهم يعتمدون على مرجعية أخرى مختلفة.
ثانياً : أن الدولة المعاصرة دولة مدنية تعتمد على أسس من العقل والتجربة والخبرة مستقلة تماماً عن الدين، فخضوعها للدين سيكون انتهاكاً للحريات وحقوق الأقليات والمرأة والمساواة وغيرها من منجزات الدولة المعاصرة، ويستحضرون في هذا عدداً من التجارب التاريخية والحديثة التي يرونها ملازمة للحكم بالدين.
إذا استحضرنا هذين الدافعين اللذين يدفعان نحو (علمنة النظام السياسي) بإبعاد الدين عنه، يسهل علينا أن نجيب عن سؤال:
هل يمكن لهذه العلمانية أن يكون لها شيوع وانتشار في المرحلة الحالية؟
الواقع يجيب بوضوح: نعم، وما يؤهلها للانتشار أكثر هو أن هذه العَلمانية بدأت تتسلل إلى تفكير بعض الإسلاميين، وصار (المضمون العَلماني) هذا يعبَّأ في أوعية إسلامية، فأصبح النموذج العَلماني نموذجاً متسقاً مع المفهوم الإسلامي ولا يصادم الأحكام الشرعية، بل ويُقدِّم له عدداً من النصوص والدلائل الشرعية التي تدعمه وتؤيده كما تقرِّر ذلك بعض الدراسات والمؤتمرات والمحاضرات المعاصرة.
فالذي حصل أن إشكاليَّتي التفكير العَلماني في نفي (وجود رؤية دينية قطعية) بما يعني فرض رؤية استبدادية، و(طبيعة الدولة الحديثة التي لا تعتمد على الدين) بما يثير عدداً من الإشكالات؛ قد تسرَّبت إلى عقول بعض الإسلاميين، فأصبحت هذه الإشكالات حاضرة في تفكيرهم بدرجات متفاوتة، وبالتأكيد حضورها لن يكون كما هو لدى العَلمانيين، فثم اختلاف كبير في التصورات بينهما، لكن الإشكال ذاته موجود بدرجة معينة وقد يزيد ويضعف بحسب عوامل كثيرة، هذا كله يسهم في أن تعود العَلمانية في جانبها السياسي من خلال بعض الإسلاميين أنفسهم.
كيف يمكن ذلك؟
الواقع أن (بعض الإسلاميين) صار يقدم عدداً من الرؤى التجديدية في الفكر الإسلامي يفسر بها النظام السياسي الإسلامي تجعلها متقاربة لحد كبير - إن لم تكن متطابقة - مع الرؤية العَلمانية للنظام السياسي، فالنتيجة بين الطرفين واحدة وإن اختلفا في الطريق الموصل إليها.
فتكثيف العَلمانيين للدوافع التي تخوف الناس من الحكم الإسلامي، مع وجود بعض الرؤى التجديدية المنسوبة إلى الإسلام؛ يعطي فرصة كبيرة لمفهوم ( علمنة النظام السياسي ) أن يكون له حضور في المرحلة القادمة .
في العدد القادم - بإذن الله - سنستعرض عدداً من هذه الرؤى التجديدية التي يقدمها بعض الإسلاميين ونقارنها بالمفهوم العَلماني، لنبحث عن أوجه الاتفاق والاختلاف، ونتمعّن بعدها في ( قصة العَلمانية المؤسلمة ) وما الذي تجاوزته من ( عَلمانية ما قبل الأسلمة )!