بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
أما بعد ، فقد قرأت ما كتبه الدكتور خالد المدني في صحيفة عكاظ يوم الجمعة
١٣/١٠/١٤٣٣هـ
تحت عنوان : الحجامة علاج قديم عديم الجدوى !
وقد اقشعر جسدي ، وتفطر قلبي ، لما ذكره في مقالته العرجاء في الصحيفة
المقعدة: عكاظ ، التي قبلت أن تنشر مثل هذا السخف والهراء على الملأ ، وقد
عودتنا على ذلك منذ نشأتها ، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
وأقول: إن هذا الدكتور قد أفصح عن جهله البالغ في الدين وفي الطب الذي
يتباهى به.
فأما جهله بالدين فظاهر من مقالة السوء التي أطال فيها الكلام عن الطب
النبوي عامة ، وعن الحجامة خاصة ، حيث ذكر ما مفاده أن الأحاديث النبوية في
الطب ليست من الدين ولا من الوحي الإلهي ، بل منها ما هو من تجارب ومعارف
العرب ، ومنها ما يختص ببيئة الصحراء.. إلى آخر ما ذكره.
ثم جعل الطب النبوي من جملة مسائل العادات ، كالطعام واللباس وركوب الدواب.
قلت: وقد أفصح الكاتب بمقاله هذا عن جهله البالغ وافتئاته على الوحي ، وفيه
رد صريح للسنة ، وتنقص خفي بمقام النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي قال الله
تعالى في حقه {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}.
وهذا عام في كل ما ينطق به النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء مؤكداً في
النصوص المتواترة ، وأجمع عليه كل أهل العلم.
وقد ورد في الحديث:
أن عبدالله بن عمرو كان يكتب كل حديث يسمعه ، فقال له بعض الصحابة: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول الكلمة في الغضب والرضا ، فقال صلى الله عليه
وسلم (اكتب فوالذي نفسي بيده لايخرج منه _وأشار إلى فمه_ إلا حق).
فإذا كان هذا في الكلمة التي يقولها صلى الله عليه وسلم ولو في الأمر الخاص
،كالمزاح مثلا ، فكيف بما يقوله _بأبي هو وأمي_ ويحث به عموم الأمة ،
كالحجامة؟
وقد تواتر ذكر الحث على الحجامة في عدةٍ أحاديث ، أخرج بعضها البخاري
ومسلم.
كحديث أنس بن مالك (إن أفضل ما تداويتم به الحجامة).
وحديث جابر (إن كان في شيئ من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو
لذعة بنار ، وما أحب أن أكتوي).
وعند البخاري من حديث ابن عباس (الشفاء في ثلاثة : شربة عسل وشرطة محجم
وكية نار ، وأنهى أمتي عن الكي).
وصح عنه أنه احتجم صلى الله عليه وسلم حتى وهو محرم.
وفي السنن والمسانيد أحاديث أخرى عن الحجامة.
وروى الطبراني حديث (ما مررت ليلة أسري بي بملأ إلا قالوا : يا محمد مر
أمتك بالحجامة).
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن الحجامة وحي وسنة مطلوبة لا مجرد عادة من
العادات. هذا أولاً.
وثانياً: لو فرضنا _جدلا_ أنها عادة ، فإن مجرد فعل النبي صلى الله عليه
وسلم لها ، يجعلها من العادات المفيدة النافعة ، فإنه صلى الله عليه وسلم
قد جبل على العادات الطيبة ، ولا يصح ولا يجوز أن يستخف أحد بعادة من
عاداته صلى الله عليه وسلم ، أو ينكرها ، أو يطلب لها شاهداً من فعل البشر
وتجاربهم ، فكيف بما كان سنة من سننه رغب فيها أمته وذكر وصية الملأ الأعلى
بها؟
وهناك فرق كبير جداً بين أن يترك المسلم شيئاً من العادات النبوية ، أو حتى
السنن ، وبين أن يستنكرها ، أويستخف بها ، أويعارضها برأيه ، أو برأي غيره.
ولو فرضنا _جدلاً_ أن أطباء العالم منذ القدم وإلى عصرنا هذا ، أجمعوا على
أن الحجامة لا فائدة فيها ، أو أنها مضرة للأبدان ، لكان الواجب أن يطرح
قولهم ويضرب به عرض الحائط ، لما صح من فعله صلى الله عليه وسلم لها ، فكيف
وقد حث أمته على فعلها؟
وأقول لهذا الدكتور الجاهل: هب أنك لم تقف على قول لأحد ساداتك من أطباء
الغرب في فوائد الحجامة ، فهل علم الطب محصور فيهم لا يتعداهم؟
وهل وقفت على أقوال غيرهم من أطباء المشرق في هذه المسألة؟
أم أن أقوالهم وتجاربهم لا وزن لها عندك؟
وكم سمعنا وعلمنا من تفرد أطباء الصين والهند وروسيا والعرب بأبحاث وتجارب
قصر عنها الطب في الغرب ، حتى اضطرت بعض جامعاتهم إلى الاعتراف بها ، ومنها
على سبيل المثال: الطب البديل ، والإبر الصينية.
ومعلوم أن تجارب الغرب اليوم قد اعتمدت على كتب القدماء ، وقد كانت الحجامة
معروفة متداولة عندهم من قبل الإسلام ، وقد ذكرت فوائدها في المصنفات
القديمة.
ولست بحاجة لأن أدلل على ذلك ، لأنه يكفينا نحن المسلمين أنها وردت في الطب
النبوي المعتمد على الوحي المنزل من خالق الكون سبحانه {ألا يعلم من خلق
وهو اللطيف الخبير}.
وفي كتب الأصول مباحث مفصلة عن حكم التأسي بأفعال الرسول العادية الجبلية ،
وقد ذكروا أن المسلم إن قصد بفعله لها المتابعة والتأسي به صلى الله عليه
وسلم فإنه يؤجر على ذلك القصد.
أما إنكار الفعل النبوي _العادي أو الجبلي_ أو الاستخفاف به ، فإنه كبيرة ،
وقد يجر إلى الكفر ، لأن فيه إساءة أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم كما لا
يخفى.
وقد حذر الله المؤمنين من أن يقدموا بين يدي الرسول بأمرٍ أو اقتراحٍ ، ولو
في مباحٍ ، حتى يصدر عنه أمر أو حكم ، فقال سبحانه {يا أيها الذين آمنوا لا
تقدموا بين يدي الله ورسوله}
وقد كان سببها اقتراح أبي بكر وعمر في أمر ليس فيه حكم حلال أو حرام ، قال
الراوي: كاد الخيران أن يهلكا .. الحديث.
كما حذر سبحانه الأمة مما هو أشد ، فقال {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي
ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لاتشعرون}.
ولا ريب أن الاعتراض على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتقديم غيرها
عليها ، أبلغ من مجرد رفع الصوت فوق صوته.
وقال تعالى {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب
أليم}.
وقد وجد في القرون السالفة من قدم الرأي والعقل ، أو قدم أقوال أهل الكلام
والفلسفة على نصوص الوحي ، فتواتر نكير الأئمة عليهم ، تكفيراً وتفسيقاً ،
بحسب الحال.
ومما أثر عن الإمام أحمد قوله:
دين النبي محمد أخبار
نعم المطية للفتى الآثار
لاترغبن عن الحديث وأهله
فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما جهل الفتى أثر الهدى
والشمس بازغة لها أنوار
وقال غيره:
أهل الكلام وأهل الرأي قد جهلوا
علم الحديث الذي ينجو به الرجل
لو أنهم عرفوا الآثار ما انصرفوا
عنها إلى غيرها لكنهم جهلوا
قلت: والكلام في تقرير هذه المسألة يطول جداً ، وحسبنا ما ذكرناه هنا.
وأختم مقالي بنصيحة إلى كل من اجترأ على مثل تلك المقالات الشنيعة في حق
الرسول صلى الله عليه وسلم أوفي حق سنته ، بأن يبادروا بإعلان
التوبة منها ، قبل أن يصيبهم الله بعذاب من عنده ، أو يدهمهم الأجل فيكبهم
الله في النار ، فرب كلمة يتكلم بها المرء من سخط الله لا يلقي لها بالا
يهوي بها في النار سبعين خريفاً.
كما ورد في الحديث.
ورب كلمة تخرج صاحبها من الملة ، كما حكم الله في كتابه على أولئك
المستهزئين بآيات الله أو برسوله أو بعباده المؤمنين.
والله تعالى أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.