موضوع: قصة جريمة بلا عقاب الجمعة 10 أغسطس 2012, 2:17 am
كانا رفيقان,بل كانا صديقان,يجلسان في المدرسة الثانوية على مقعد واحد متجاوران. وهما يترافقان أيضاً على طريق المدرسة في الذهاب والأياب,يمضيانه في الحديث عن الدراسة وأحوال الشباب. كان طريق الأول يمر من أمام منزل الثاني فمنزله يبعد عنه بحوالي خمسة مباني. وحينما كان يقف منتظرا صديقه في كل صباح,كان يرى فتاة تخرج من المبنى ذات وجه وضاح. وكان هذا المشهد يتكرر كل يوم,وهو يختلس النظر إليها خلسة خوفاً من اللوم. كانت هي أجمل ما رأى من فتيات,تلون صباحه بألوان السعادة والمسرات. وما من مرة نظر إليها دون أن يعتريه الخجل,وتسري في أوصاله قشعريره من الحب و الوجل,فتكتم على ما أصابه فبرى عوده ونحل. ولكن حينما اشتد على هذا العاشق ألم الحب,ومن المعلوم أن هذا الداء أعجز عباقرت الطب. فاستنجد العاشق بصديقه واخذ يبثه لواعجه,عساه يجد لديه حلاً او دواءً يعالجه. فقد أضناه الهوى وأتعسه الشقاء ولا علاج لعلته إلا بلسم اللقاء. فقترح عليه صديقه أن يكتب لها رسالة يخبرها فيها عن مشاعره ويحكي لها الحكاية. فإن أقرت بمشاعره نحوها وبادلته العواطف فعليه منذ الأن أن يستعد لمواجهت العواصف. أما إن لم تلقى رسالته أي اهتمام أو عناية,فنسيان كل هذا الامر سيكون أهون في البداية. ((هون عليك يا صديقي فما تفعله في نفسك حرام,وأنا كرمى لعينيك سأكون لكما مرسال الغرام)). هلل العاشق فرحا لما قاله صديقه,وقبله مغتبطاً إنه حقا أعز من شقيقه. لم يطق العاشق صبراً إلى صباح اليوم التالي,فسارع مساءً إلى منزل صديقه الغالي. حاملا رسالة مضمخة بكل أنواع العطور,داخل ظرف رسم عليه عشرات الزهور. ورجاه أن يكون هذا الأمر بينهما سراً مكتوم,لأنه إن ذاع الخبر فسيكون رفضها أمراً محتوم. طمأن مرسال الغرام قلب صديقه العاشق,فالسر في بئر عميقة وليكن مطمئنن وواثق. ودع العاشق المسكين مرسال الغرام,وهو لايدري ما يضمر له من غدر وإجرام. فبدلاً من أن يسلم الرسالة إلى المرسلة إليها,سارع إلى فضها وأخذ يقرأ ما فيها. (اكتب لك بالستيلو,ليكون حبي لك بالكيلو. أكتب لك بالرصاص,ليكون حبي لكي أقوى من الرصاص. أكتب لكي بالاحمر,ليكون حبي لكي أكثر وأكثر. ايتها الجميلة الغالية على قلبي كم أتمنى أن تكوني رفيقة دربي ). ضحك مرسال الغرام على ماكتبه العاشق البريئ,غير عابئ ببشاعة فعله الوقح الدنيئ. ولم يكتفي ذلك الشرير بما أبداه من خسه ونذاله بل أخذ أوراقاً وأقلاماً وبدأ يكتب رسالة. (أكتب لك بالبني لتكون أكثر قرباً مني أكتب لك بالأزرق لأذوب في حبك وأغرق. اكتب لك بالليموني لتسكن داخل عيوني. في سماء الليل أنت قمري وأتمنى أن تصير قدري). في صباح اليوم التالي كان العاشق ينتظر على احر من الجمر متشوقاً لمعرفة ماحدث وما آل إليه الأمر. (صباح الخير يا دون جوان عصرك ويا روميو الحارة,الفتاة متلهفة عليك وكانت تنتنظر الأشارة. وما أن سلمتها رسالتك حتى أرتعشت متحججة بأنه البرد,وبعد عشر دقائق فقط سلمتني الرد. أيها الخبيث تتظاهر بأنك مسكين وأنت لست كذلك,وهاهي رسالتها لم أقرأها وأقسم على ذلك). طار العاشق فرحاً,والدنيا لم تعد تتسع له,فهاهي حبيبته الجميلة قد أشفقت عليه وكتبت له. وهكذا تتالت بين الحبيبين رسائل الغرام,وطبعا كان ساعي البريد هو مرسال الغرام. يتسلم منه الرسائل ويسلمها إليه,وبقي على هذه الحالة أسابيعاً يضحك عليه. ومما زاد في غيه هذا المعقد الحقود أنه صار يسرق من صاحبه الهدايا و الورود. لكن هذا الوضع لم يستمر لوقت طويل,فقلوب العاشقين هي لهم خير دليل,فالعاشق لم يجد من محبة فتاته أي إشارة أو دليل. فأخبر مرسال الغرام بانه تائه وحيران,عن تفسير التصرفات الغريبة لأبنة الجيران. فهو عندما يراها تتصرف أمامه بشكل مريب,ونظراتها إليه كنظراتها إلى أي شخص غريب. بل هي تتجاهله وتتحاشاه بكل الوسائل,على العكس تماماً من عاطفتها المتوقدة في الرسائل. أصدر مرسال الغرام دفعى جديدة من أكاذيبه,واصفا أبنت جيرانه بانها قليلة الخبرة وأديبة. ويجب عليه أن يتعود على هذا الدلال فالحب قد أثمر واّن أوان حصاد الغلال. أتبع العاشق النصيحة دافعا بنفسه إلى الشقاء,فكتب إلى حبيبته يطلب منها موعداً للقاء. فجائه الرد سريعا بلا تمهل ولا أبطاء,لبيك ياحبيبي لبيك فما أحلى هذا النداء. وستكون ساعة ميلادي عند الرابعة هذا المساء,في حديقة السبيل تحت شجرة الكستناء. توجع العاشق من خفقان قلبه الشديد,وشعربأنه هو أيضا سيولد اليوم من جديد. فحبيبته تناديه إلى لقياها إنه حقا يوم العيد. وسيلتقي بوردته اليانعة في الحديقة,يالله ماروع أن يتحول الحلم الى حقيقة. ارتدى أجمل ما لديه من الثياب,وحفظ عن ظهر قلب قصيدة(بدر شاكر السياب). أطلي على طرفي الدامع خيالاً من الكوكب الساطع ظلا من الأغصن الحالمات على ضفة الجدول الوادع ليلقيها على حبيبته حين يلقاها,لأن ما يجيش في صدره هو فحواها. قص شعره وقلم أظافره,وحلق ذقنه وشذب شاربه. سكب على نفسه كل العطور,وحمل في يده باقة حمراء من الزهور. عندما وصل الى شجرة الكستناء ,كان المكان خاليا من المتنزهين تطلع حوله ليتأكد من خلوه من المتطفلين. ظل واقفأً حاملا بيده باقة الورد الحمراء,وهو يخمن من أي اتجاه ستأتي حبيبته الحسناء. مستعرضاً في ذاكرته كيف سيقدم لها باقة الورد و الهدية,وبعد أن يسلم عليها سيلقي قصيدته الغزلية. وبينما هو على هذه الحال,واقفاً منشغل البال. فجأة.. ظهر أمامه مرسال الغرام كالشيطان,وهو يقفز أمامه ويتلوى كالثعبان. ولحق به بقية الأصدقاء,فهذا عمار وهذا ملهم وذاك نعمان. تطلع العاشق المسكين إليهم بذهول,لا يدري مايفعله أمام هذا الموقف المهوول,تعطلت كل أحساساته وصار أشبه بالمشلول. أخذ الأصدقاء يدورون حوله وهم يتمازحون,وتعالت أصواتهم بالغناء وأخذوا يتضاحكون. (الله يساور ودوس دوس وجيه,صلو على محمد والزين زين والعادينا الله عليه. عريسنا الزين يتهنة,يوعد صاحبتو ويستنى). أفلتت من يد العاشق باقة الورد الحمراء,وسقطت على الأرض فتناثرت ورودها في الهواء. تمنى العاشق أن تنشق الأرض وتبتلعه في الحان,فهو لم يعد قادر على تحمل هذا الهوان. سارع الأصدقاء إلى التقاط الورود التي تناثرت على الأرض وعلقوها في عرى ثيابهم واستمروا في تقديم العرض. أما العاشق المسكين, الذي تلقى في لحظة ألف سكين. فإنه لم يعد يرى شيئا لأن الظلام ملئ عينيه,ولم يعد يسمع شيئا لأن الصمت سكن أذنيه. وبات وقوعه على الأرض أمرا ليس فيه جدال,إلا أنه ظل صامداً صمود الرجال,وأيقن أنه لو وقع لأنتصر عليه صديقه الدجال. أستنفذ مرسال الغرام كل مافي جعبته من حيل,جاهداً في تحطيم عنفوان العاشق لكن بلا أمل,وبقي صاحبنا الشجاع متماسكا صامداً كالجبل. وكما ظهروا فجأة أختفوا فجأة هؤلاء الملاعين,تاركين العاشق لوحده تنزف جراحه وليس من معين. وهنا فقط أنحنى العاشق إلى الأرض,والتقط مابقي من باقة الورد. وما أن هم بالرحيل رأى مشهدا كان يحسبه مستحيل. كانت هي!,إنها هي!,فتاته ذات الوجه الوضاح,إنها هي!,حبيبته التي ينتظرها كل صباح. تتمايل كأغصان الياسمين,وهي تسير إلى جانب صديقتها,وتلعب بخصلات شعرها كما هي عادتها. إنهما متوجهتان إليه وها هما تتظران من بعيد إليه. حار فيما يفعله وماذا يجب عليه,أراد ان يخرج قلبه ويضعه لها بين يديه. وعندما صارا بالقرب منه انتبهت حبيبته الغالية إليه فتطلعت نحوه والتقت عيناها بعينه. أرتبكت وارتبك واحمرت وجنتاها ووجنتيه,أحس بأنها أرادت أن تسلم عليه,لكن خوفها منعها من التحدث إليه. أنفرجت شفتاها عن بسمه رقراقه حانية,ضمدت بها كل جراحه النازفة في ثانية. لكنها حينما رأت باقة الورد بين يديه,ندمت وأرادت أن تسترجع البسمة التي أهدتها إليه. فلقد ضبطته متلبساً هذا الخائن وكشفت الحقيقة,إنه يحمل لفتاته ورداً وينتظرها في الحديقة. لم يستغرق هذا المشهد سوى بضع ثوان,وعاد صاحبنا من جديد وحيداً كما كان. لكنه في هذه المرة كان متعجباً أشد العجب..وليس السبب. مما فعله أصدقائه الأشرار ولا من هذه الصدفة الغريبة التي رسمتها له الأقدار. بل من تلك النظرات التي تبادلها مع حبيبته الغالية. كيف أمكن لهما أن يحكيا كل قصص الحب في ثانية!!؟.