هذا الحديث دليل على أن الصائم مطالب بحفظ صومه ، وذلك بالتحلي بمكارم الأخلاق والبعد عن سيئها ، ليؤدي الصوم ثمرته المطلوبة ، وتترتب عليه المغفرة الموعود بها .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس الصيام من الأكل والشرب ، إنما الصيام من اللغو والرفث ، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل : إني صائم ، إني صائم " .
وعنه - أيضاً – رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " رواه البخاري 6057.
فقد دل هذا الحديث وما قبله على أن الصائم يحرص على سلامة صومه مما ذُكر .
وعلى أن هذه المذكورات يزداد قبحها في الصيام ، ولهذا ذُكرت فيه ، كما دل الحديث على أن الصيام الشرعي صيام الجوارح ، وأما الصيام عن الطعام والشراب ففي مقدور كل أحد فأمره سهل .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الصيام جُنَّة " أي ما يُجِنُّك أي يسترك ويقيك مما تخاف .
والمعنى : أن الصيام يستر صاحبه ويحفظه من الوقوع في المعاصي ، التي هي سبب العذاب ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الصيام جُنة من النار كجنة أحدكم من القتال .. " وهذا دليل بيِّن على فضل الصيام .
وقوله " فلا يرفث " الرفث هو الكلام الفاحش ، ويطلق على الإفضاء بالجماع والمباشرة لشهوة ، قال تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم .. } قال كثير من العلماء : إن المراد به في هذا الحديث الفحش ورديء الكلام والله أعلم .
قوله : " ولا يصخب " الصخب هو الصياح والخصومة ورفع الأصوات كما هو شأن الجهال .
قوله : " ولا يجهل " الجهل هنا يراد به ما يُقابل الحِلْم ، وأكثر ما يُستعمل ضد العلم .
وقوله : " فليقل إني صائم " أي إذا نازعه أحد أو خاصمه أو سابَّه فإنه لا يعامله بمثل عمله بل يقول : " إني صائم " لعل خصمه ينـزجر عن قتاله وسبابه إذا علم أنه لا ينتصر منه لِعِلَةِ صومه .
وهل يقول ذلك بلسانه ؟
فيه أقوال :
قيل : بلسانه ، وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
وقيل : يقولها في نفسه .
وقيل : في الفرض يقولها بلسانه وفي النفل يقولها في نفسه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " والصحيح أنه يقول بلسانه كما دلَّ عليه الحديث ، فإن القول المطلق لا يكون إلا باللسان ، وأما ما في النفس فمقيد كقوله : " عما حدثت به أنفسها " ثم قال : " ما لم تتكلم أو تعمل به " .
فالكلام المطلق إنما هو الكلام المسموع وإذا قال بلسانه : إني صائم بيَّن عذره في إمساكه عن الرد ، وكان أزجر لمن بدأه بالعدوان " منهاج السنة 5/197.
إن الصوم المقبول حقاً هو صوم الجوارح عن الآثام ، واللسان عن الكذب والفحش والبطن عن الطعام والشراب والفرج عن الرفث ومباشرة النساء .
والصيام مدرسة تربوية تُعلِّم الحِلم والصبر والصدق ، وتحث على مكارم الأخلاق وفضائل الأقوال والأعمال ، فالصائم لا يصخب ولا يغلو ولا يغضب ، ولا ينطق كذباً ولا يقول زوراً ، لا يُخلف وعداً ولا يؤخر عملاً ، بل قوله ذِكر ، وصمته فِكر ، وإنَّ وقت الصائم لَأَنفس وأغلى من أن يُنفق في هذه المهلكات ، التي تؤثر على ثواب الصيام أو تذهب حقيقته . والله أعلم