كان المطر غزيراً...وصوت الرعد يملئ المكان.. ورائحة الأرض تملأني سعادةً ونشوة.. من وراء الزجاج أراقب تلك الحبات التي منحها الله قدرةً عجيبة على بعث الراحة في النفوس.. احتسي فنجاناً من القهوة المرّة.. الهدوء يعمّ المكان..مع أن القاعة كانت مليئةً بالناس لكن أكثرهم فضّل الهدوء والتمتع بصوت المطر..
لم أتنبه لأحدهم حتى شدتني وبقوة رائحة الياسمين.. باقةٌ كبيرةٌ من الياسمين على طاولة أحدهم كانت رائعة...وتمنيتُ لو كانت لي..
وبعد لحظات اختفى ذلك الرجل!!! أتت النادلة وبيدها تلك الباقة وقالت :
إنها لكِ سيدتي
ذهلتْ..وسألتُ ممن؟ قالت من ذلك الرجل..إنه يعرفكِ وينتظركِ كل يوم يراقبُ فنجانكِ ويحسد هدوءكِ يتمنى لو أنه ذاك المطر الذي يشدّ انتباهكِ دائماً..يتلوّى شوقاً إن غبتِ يوماً عن الحضور.. عامٌ كامل وهو ينتظركِ كل يوم..وأنتِ لم تريه!!! يعرفُ ماتحبين..وبماذا تستمتعين.. يكره أن يزعج هدوءك ِبصوته ويخافُ أن يُقلقَ قلبكِ بكلماته.. ولذلك فضلّ الصمت..وأرسل لكِ ماهو أبلغُ من الكلام.. باقةُ الياسمين
اعتدتُ هذا المكان منذ أكثر من عام, أجلس بمفردي وأراقب الطبيعة بصمت.. مرت أيام ولم يأتِ صاحب الظل الخفي..أقصد من أهداني تلك الباقة لم أكن انتظره..لكنني استغربت لفكرة أنه راقبني عاماً كاملاً دون أن أدري!!!! كان لديّ من الهموم ما يجعلني أنسى كل شيء حولي ولا آبهُ إلاّ لصوتِ عقلي..
امتلأت السماء بالغيوم وتهيأت الأرض لاستقبال مطرٍ غزير.. شربتُ قهوتي وهممتُ بالرحيل..
صادفته عند باب القاعة..ابتسم ولكنني لم أستجيب مشيتُ دون أيّ تعبيرٍ أو تعليق..
وبعد ساعة من المشي المتواصل وبعد أن تبللتُ تماماً سمعته من خلفي يقول: ألم تشعري بالبرد؟؟ لم أعتد أن أكلّم أحداً لا أعرفه..تابعتُ المسير كرر السؤال وبصوتٍ أعلى.. لم أجبْ.. مرةً ثالثةً سألني؟؟ قلتُ بحزم: لا قال: أعلم ذلك تماماً..أنتِ مختلفة دائماً المطر يدفءُ قلبكِ من برد الألم والفراق
استفزتني كلماته..كيف يعرف مابنفسي والذي لا أبوحه حتى لمرآتي!!
استدرتْ..( وأعلم أن هذا ما أراد )
سألته من أنت؟ قال: أنا ظل القمر الذي سكن هذا المكان ظلكِ..وسأبقى مهما رفضتِ أو غضبتِ
ذهلتُ لإصراره.. سرتُ بخطواتٍ بطيئة دون أن أنطق بكلمة
لا أُنكر إعجابي بشخصيته..فهو رجلٌ وسيمٌ جداً..ذو شخصية قوية وإصرار لم أرى مثيله..
منذ عام لم أنقطع يوماً عن الذهاب إلى ذلك المكان.. والآن غبتُ لأسبوعٍ كامل.. طبعاً اشتقت لذاك المكان كثيراً ولقهوتي هناك ولكن كان يجب أن اختفي... وفي اليوم السابع من غيابي استيقظت على صوت جرس الباب..وعندما فتحت فوجأتُ بباقة ياسمين رائعة ملفوفة بشريط أحمر..عليها بطاقةٌ كُتب عليها اشتقتكِ................
كانت أجمل وأغربَ مفاجأة في حياتي.. كدتُ أجزم أنها من ذلك الرجل ولكنني لم أتأكد,وأحاسيسي كانت تقول أنها منه..ولكني لم أعتد يوماً أن أفترض أشياء غير منطقية..وأنه يعرف عنوان منزلي هذا ليس منطقياً
كان يجب يومها أن أذهب لأتأكد.. جهزت نفسي وذهبت..كان ينتظرني ومعه نفس الباقة التي أُرسلت لي.. سُعدتُ بداخلي ولم أُبدي ذلك أبداً..ذهبت لمكاني وطلبت قهوتي وجلست بهدوء كعادتي
لم ألفت إليه.. لكن شيئاً ما داخلي كان ينذرني أن هناك ماسيحدث
في مثل هذه المواقف تشعر أن كل الأشياء تتآمر عليك القهوة..كأس الماء..المطر..وحتى الياسمين
أحضروا لي القهوة وبجانبها حبة شوكولا من النوع الذي أفضله.. في هذا المحل بالذات لم أعتد منهم مثل تلك الضيافة.. سألت..هل تقدمون الشوكولا حديثاً إلى جانب القهوة؟ قالت: لا سيدتي هذه هديةٌ لكِ فقط من الرجل صاحب باقة الياسمين
كيف عرف أنني أحب الشوكولا وهذا النوع بالذات؟؟؟!!!
ارتسمت بذهني كثيرٌ من إشارات الاستفهام؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
مئة سؤال وسؤال... الياسمين؟؟؟ عنوان بيتي؟؟؟ حبي للمطر؟؟؟ وحتى شوكولاي المفضلة؟؟؟؟؟؟؟
فكرتُ في انه مثلاً كان يراقبني منذ أكثر من عام أو ربما عامين..فمن صمتَ عن إعجابٍ لمدة عام لديه الكثير من الصبر..لأعوامٍ ربما؟؟؟؟
لا أدري...
تراءت لي أفكارٌ وصورٌ كثيرة وأنا أمسك حبة الشوكولا.. لم أتناولها ولا حتى شربت القهوة, تركت الحساب على الطاولة وخرجتُ بسرعة.. لمحته بطرف عيني يبتسمُ بحب وكأنه شعر تماماً بخوف تلك الطفلة داخلي..
كانت ليلتها ليلةً طويلة لم أستطع النوم وأنا أفكر وأفكر وأفكر.. من يكون هذا الرجل؟ وماذا يريد مني؟ ولماذا اختارني أنا؟
الساعة السابعة صباحاً..موعد عملي كنتُ أنتهي ظهراً لأذهب للجامعة وأرى محاضراتي ثم إلى ذلك المكان.. ارتاحُ فيه ساعة على الأقل من شغب العمل والدراسة وأشعرُ بصفاء نفسي وأمنح روحي 60 دقيقة من الهدوء.
أغلقتُ باب المنزل وأنا متعبة حيث لم أنم ولم أشعر بالراحة تلك الليلة.. كنتُ مستعجلة فقد كدتُ أن أتأخر.. في الشارع فوجأتُ به يأتي بسيارة أجرة ويطلب من السائق أن يوصلني لمكان عملي ويذهب بعد أن يحييني بابتسامة..!! كيف عرف عنوان عملي أيضاً؟؟
يا إلهي سأصابُ بالجنونّّ!!!
ركبتُ السيارة ووصلت للعمل وأنا صامتة تماماً من آثار الصدمة كان يقصد أن يلعب بأعصابي وأن يشغلني به.. وقد نجح
هناك نوعٌ من الرجال يأسرونَ عقلكِ من أول مقابلة وهو كان كذلك..ليس فقط من تصرفاته الغريبة ولكن من نظراته..تحركاته.. وحتى صوته وكأنه كان يعرف كل شيء أحبه ويلفت نظري..ويفعله
قررتُ أن أتلاعب بالقدر.. أخذتُ إجازة من العمل لمدة أسبوع ولم أخرج من البيت أبداً.. لم أشأ أن أتعلق بأوهام..رغم أنني أعلم أن إحساسي لا يخطأ أبداً ولكن الحذر واجب وخاصة في أمور القلب.. جاهدتُ نفسي ألاّ أفكر به..وألاّ انتظر منه مفاجأة أخرى نجحتُ تقريباً ولكن صوتاً بداخلي كان يخبرني...إنه يحبكِ
في آخر يومٍ من إجازتي حدث ما لم أتوقعه أبداً.. كنتُ أكتب بدفتري الصغير أحاسيسي المتشابكة.. رنّ هاتفي الجوال..لايوجد رقم. ماذا يعني؟؟ هل أجيب؟؟ رددتُ بحزم وقصدتُ أن يكون صوتي واثقاً..
من معي؟؟؟
قال اشتقتكِ
من معي؟؟؟
ألم تنتهي إجازتكِ بعد؟ ستبقين هاربةً إلى متى؟؟
ولماذا تلاحقني؟؟؟ من أين حصلتَ على رقمي؟؟
قال: أنتِ قدري ولن أترككِ أبداً اعتنِ بنفسكِ عزيزتي وداعاً
أصابتني نوبة بكاءٍ حادة.. إنها نوعٌ من الهروب ذلك أنني أشعر أني في مشكلة ولا أعرف ماذا أفعل؟ عندما نواجه مشكلة..يجب أن نملك القوة لنبدأ بحلها وليس لحلها فالبداية هي الأهم..
بعد تلك المكالمة تملكني الخوف وأصبحتُ أشعر أنه معي..بداخلي..يحتلني..ويسكنُ مخيلتي
حاولت أن أشغل نفسي بالعمل والدراسة اقتربت امتحاناتي ولا أحب أن تتراجع دراستي بسبب أحد انقطعت عن الذهاب لذاك المكان..أطفأتُ جوالي ولم أفارق غرفتي لمدة شهرين كاملين
الحمد لله..انتهت امتحاناتي بخير شهرين ونصف لم أراه ولم يحاول أن يكلمني أو أن يظهر أمامي فجأةً كعادته.. توقعتُ أنه سئم من هروبي وأنه قرر الرحيل والنسيان
أزعجتني تلك الفكرة ..لا أعرفُ لماذا؟ هناك أشياء لا يجب أن نسأل عنها..نحن أجبنُ من أن نجيب!!
كان الربيع قد مدّ يده للعالم..تفتح الورد الجوري الأحمر الذي أحب واشتقتُ الياسمين.. في ذلك اليوم ذهبتُ إلى المقهى باكراً.. استيقظتُ ورأيتُ الطقس ممتعٌ جداً نسمات لطيفة وإنذارٌ بأمطار نيسان التي أعشقها.. ذهبتُ سيراً على الأقدام , أتنفس الأمل مع الهواء النقي وقبل أن أصل بدأت قطرات الماء تقبّل وجهي فقد اشتاقني المطر أكثر من شوقي له..
دخلت المكان وشربت القهوة على أنغام فيروز..
أنا عندي حنين....مابعرف لمين ليلية بيخطفني....من بين السهرانين
كنتُ أعشق تلك الأغنية وأنت في مكانها..
بينما كنتُ مأخوذة بصوت المطر..ناداني من خلفي
هل أستطيع أن أجلس؟؟
اعتقد أنه لمح بريق الفرح في عيوني..ترددتُ في القبول لكني استسلمتُ لصوت قلبي..
تفضل.......
قال: أعلمُ أنكِ كنتِ مشغولةً بامتحاناتكِ ولم أشأ أن أزعجكِ (وكأنه رأى نظرة العتاب في عيني وراح يبررُ غيابه)
كيف أنتِ أخبريني؟
الحمد لله بخير..وأنت؟
ابتسم لسؤالي وقال: اشتقتُ لكِ كثيراً.. وحلمتُ بهذه اللحظة كثيراً..
لم أسأله من يكون..ولا من أين عرفني..ولا كيف عرف عني كل شيء.. حدثني طويلاً عنه عمله..عمره..دراسته..وحتى عائلته كان واضحاً جداً وواثقاً بأنني سأفهمه وأنني سأشعر به وبكلماته لا أعرف كيف عرف كل هذا..فقد كان يسيطر على قلبي شعوراً أكبر من كل تلك الأسئلة..
كنتُ حلمه الياسمينيّ وكان أميري والرجل الحقيقي الذي انتظرته طويلاً..
شعرت أن وجود شخص مثله في حياتي كفيلٌ أن يجعلني سعيدة فمنذ زمنٍ بعيد لم ألقى رجلاً يفهم أنوثتي ويشعر بأحاسيسي ويقدّر نجاحاتي ويقدس وجودي مثله..