موضوع: قصة الجشع والانسان السبت 03 يوليو 2010, 4:28 pm
قصة الجشع والانسان قصة الجشع والانسان قصة الجشع والانسان ما يحتاج إليه الإنسان من الأرض
لـ : تولستوي .
( باخوم فلاح روسي مضطرم الرغبة في توسيع أملاكه ، فأكد له بعض الناس أن " الباشكير " وهم شعب من شعوب روسيا الشرقية يبيعون أراضيهم بأثمان زهيدة جدا فجمع كل أمواله وسافر إلى بلاد الباشكير . فعاقد شيخ القرية على أن يكون له بألف روبل جميع ما طاف به من الأرض في يوم واحد ، على شرط أن يرجع قبل المغيب إلى الموضع الذي ذهب منه ، وإلا خسر جميع ماله . وعند الفجر أقامت الجماعة على أكمة وانطلق باخوم بصحبة فتيان على جياد ليقيموا معالم للأرض المطوقة )
مضى باخوم يسير سيرا متماثلا على غير بطء ولا إسراع . ولما قطع ميلا أمر بأن ينصب علم ، ثم واصل مسيره ، وإذ شعر من نفسه بالخفة والنشاط أسرع معجلا . وما تجاوز من الطريق طرفا حتى أمر أن ينصب علم آخر . والتفت باخوم وإذا بالأكمة ظاهرة بجلاء ، تضيئها أنوار الشمس ، وكذلك الجماعة القائمة عليها .
وقدر باخوم أنه قد مشى خمسة أميال . ولما احتدم باطنه نزع عنه مئزره ، وعقد زنَّاره ، وتابع سيره . ومشى أيضا خمسة أميال . واشتد الحر فنظر إلى الشمس وإذا الوقت وقت الفطور .
وفكر في نفسه قائلا : " لقد مضى من اليوم ربعه ، ولليوم أربعة أرباع ، ولم يحن وقت الرجوع بعد ، فليس لي والحال هذه إلا أن أنزع خفي من رجلي " . وجلس فنزع خفيه وتابع طريقه . وآنس من نفسه نشاطا ففكر قائلا : " سأمشي خمسة أميال أيضا ثم أعرج شمالا ، فالمكان جيد جدا . وكلما تقدمت كان ذلك أفضل " .
وواصل سيره إلى الأمام . ثم التفت فما كاد يرى الأكمة ، وبدت الجماعة عليها أشباحا سودا أشبه بصغار الحشرات .
وفكر باخوم وقال : " حسبي ما أخذت من ها هنا ، فيلزمني الآن أن أميل من هذه الجهة " . وأحس جسده يرفض عرقا ، والعطش يعصب بفمه . فرفع باخوم قنينته وشرب وهو يمشي . وأمر أن ينصب هناك علم ثم مال إلى الشمال .
ومشى باخوم ومشى ، وكان العشب عاليا والحر في اضطرام . وشعر باخوم بالتعب . فنظر إلى الشمس ورأى أن الوقت وقت الغداء بالضبط .
( فوقف باخوم وتناول شيئا من الخبز ولم يجلس خشية أن يضطجع فينام ، وإذ استرجع بالطعام بعض قواه استأنف المسير بنشاط بيد أن الحر بعث في نفسه ثقل النوم والخور . فتشدد باخوم وعلل النفس بالسعادة دهرا بعد العناء ساعة . ورأى إلى شماله واديا يصلح لأن يكون منبتا جيدا للكتان فضمه إلى أملاكه وأقام هناك أعلاما ، وبصر بأن الأكمة قد أضحت بعيدة جدا والشمس قد أوشكت أن تغيب ، فعزم أن يرجع مع أنه كان مصمما أن يجتاز بعد عشرة أميال فتتساوى بها أطراف أملاكه )
وتوجه باخوم توا إلى الأكمة . ولكن باخوم كان يشعر أنه مجهود . فكان يسير ورجلاه تؤلمانه وقد اعتراهما سوء شديد فأحس أنهما تتخاذلان . وقد كان يشتهي أن يستريح ولكنه لم يكن ليستبيح ذلك ، وإلا تعذر عليه أن يبلغ الغاية قبل مغيب الشمس . فالشمس لا تنتظره بل كانت تهوي كأن يدا تدفعها دفعا .
ففكر باخوم وقال : " واحسرتاه ! قد لا أكون إلا مخدوعا . لقد جمعت أكثر مما ينبغي . فماذا يحل بي إن أنا تخلفت عن الغاية في الأجل المضروب ؟ آه ، ما أبعدها مني وما أشد ما أنا فيه من النصب : اللهم بشرط أن لا يذهب مالي وجهدي سدى . وإذن فلا بد من محاولة المستحيل .
وراح باخوم يهرول في مشيته حتى كلعت رجلاه وسال منهما الدم ، ولكنه كان يركض دائما ، كان يركض ولا ينفك بعيدا . فألقى عنه مئزره وخفيه وقنينته وقبعته .
وحدث نفسه وقال : " آه ، لقد كنت شديد النهم ، فقضي علي بالخسران وهيهات أن أبلغ الأكمة قبل مغيب الشمس ! "
ومن شدة الخوف انقطع عنه نفسه .
وكان باخوم يركض ، والعرق يلصق ببشرته قميصه وسراويله ، والريق يعصب بفمه ، وصدره في ارتفاع وانخفاض كمنفاخ الحداد ، وصارت خفقات قلبه كأنها مطرقة ، ولم يعد يشعر أن له رجلين ، وكاد يسقط . وعدل باخوم عن التفكير في الأرض ، فهمُّه أن لا يموت من الإعياء . إنه يخشى أن يموت ولكنه لا يستطيع إلى الوقوف سبيلا .
وفكر قائلا : " لقد ركضت إلى الآن كثيرا . فإن أنا وقفت بعدئذ حسبت أحمقا " . وسمع صفير الباشكير وصياحهم ، فبعثت هذه الأصوات في قلبه حمية أوفر . فراح باخوم ينفق ما تخلف فيه من قوة ، وبدت الشمس كأنها تسارع إلى المغيب عمدا ، والغاية لم تعد بعد بعيدة جدا . ورأى باخوم الجماعة على الأكمة ! وكانوا يشثيرون إليه أن استعجل ، ورأى أيضا القبعة في الأرض وإلى جانبها ماله ! ورأى شيخ القرية جالسا على الأرض .
فحدث نفسه قائلا : " الأرض واسعة جدا فهل يقيض لي الله أن أعيش فيها ؟ آه ! لقد أهلكت نفسي " . وتابع جريه .
ونظر إلى الشمس ، وإذا الشمس حمراء ، متضخمة ، متدانية من الأرض وقد استتر حاجبها عن العيون . وما إن بلغ باخوم في جريه حضيض الأكمة حتى توارت الشمس . فصاح باخوم : " آه ! .. " وظن أنه خسر كل شيء ، ولكنه ما عتم أن خطر له إنه ، إن كان هو لايبصر الشمس من أسفل ، فالكوكب لا يغرب بعد على الذين على الأكمة .
وصعد على عجل فرأى القبعة . ها هي ذي ! وعثرت رجل باخوم فسقط ، وبيده الممدودة أدرك القبعة .
فصاح به شيخ القرية قائلا : " لله درك من بطل ! لقد ربحت أراضي كثيرة ! " .
تولستوي .
( " لقد ربحت أراضي كثيرة " تلك كلمة فيها تهكم قاس : فباخوم قد مات ، وألقى شيخ القرية بمجرفة إلى الخادم وأمره أن يدفنه . فحفر له الخادم حفرة وأعطاه مقدار " ما يحتاج إليه الإنسان من الأرض " . تلك أقصوصة بعيدة التأثير شديدة الإيلام ، وما باخومإلا صورة اإنسان الجشع الذي نجده في كل بلاد وفي كل زمان .
كان شيخ القرية يعرف من قبل ، ما سوف تكون العاقبة . فقد خبر الطبيعة البشرية ، وشاهد غير هذه المأساة في القرية ) .